close

عاجل.. عندما تكلم المنتخب بلسان الحقيقة

عاجل.. عندما تكلم المنتخب بلسان الحقيقة

صراحة نيوز- د. منذر الحوارات

كانت شوارع عمّان شبه خالية، المقاهي والقاعات الرياضية التي عُلّقت فيها شاشات عملاقة امتلأت عن بكرة أبيها، ومن البيوت كانت تتصاعد الصرخات، والكل يحدّق بإمعان، يحمل أملاً بأن الدقائق التالية ستأتي بخبرٍ مفرح: هدفٍ يُنتظر، أو فوزٍ يتمناه الجميع، كان هذا المشهد يتكرر طوال أيام دورة رياضية عربية تنافست فيها المنتخبات على كأس العرب، إنها كرة القدم، نعم، لكن ما هو أبعد من المدرجات والشاشات وصرخات المشجعين، هو السؤال: كيف يمكن قراءة هذا الاندفاع الوطني العارم من زاوية سياسية أعمق؟ وكيف كشف هذا الحدث، بعفويته، عن طبقات كامنة في الوعي الجمعي الأردني، وعن أسئلة مؤجلة تتعلق بالدولة والهوية والانتماء؟

لا يمكن فهم هذه اللحظة دون استدعاء التاريخ، بوصفه الإطار الأوسع لفهم تشكّل الدولة والهوية في العالم العربي، فمعظم الدول العربية الحديثة لم تنشأ نتيجة حراك اجتماعي داخلي أو توافقات وطنية، بل جاءت في أعقاب انهيار الدولة العثمانية وضمن ترتيبات استعمارية أضعفت الإيمان بالدولة القُطرية، وأبقت فكرة «الأمة الجامعة» متقدمة على الانتماء الوطني، ومع غياب رواية رسمية مقنعة تشرح معنى الدولة وحدودها، وولادة مؤسسات سياسية لم تعبّر بوضوح عن إرادة المجتمع، تآكلت الثقة العامة، وتفاقمت الأزمات الاقتصادية، وانسحب المواطن من المجال العام، لتدخل دول عربية كثيرة في مسارات تفكك وصراع داخلي.
أما الأردن، وإن كان جزءاً من هذا السياق، فقد شكّل حالة مختلفة نسبياً، فقد نشأت الدولة الأردنية على توافق تاريخي بين الحكم الهاشمي والمجتمع، وأُديرت العلاقة بين الدولة والمجتمع بمنطق السياسة الناعمة لا القهر، هذا النهج أتاح بناء مؤسسات منضبطة وموثوقة، وأسّس لثقة عامة، لا سيما بالمؤسسة العسكرية والنظام الملكي، غير أن هذا الاستقرار لم يتحول، عبر مراحل طويلة، إلى بناء سردية وطنية أردنية مكتملة المعالم، ويعود ذلك إلى أن المجتمع الأردني، بكل تعدديته، اجتمع طويلاً على قناعة بأن الأردن ليس غاية في ذاته، بل منصة لمشروع عربي أوسع، كان هذا المنطق عملياً وملبياً لمتطلبات مرحلة تاريخية عريضة، لكنه جاء، بلا شك، على حساب تعريف واضح ومتماسك لمفهوم «الوطنية الأردنية» نفسها.
ومع تفكك النظام العربي وتراجع المشروع القومي، عاد سؤال الهوية محمّلاً بالارتباك، ففي الأردن، ساهم ضعف الرواية الرسمية عن نشأة الدولة، وضبابية تعريف الوطنية، في إبقاء هذا السؤال مفتوحاً، وزاد الأمر تعقيداً الالتباس المرتبط بالقضية الفلسطينية، التي شكّلت في مراحل سابقة عنصر توحيد، قبل أن تتحول لاحقاً إلى عامل إرباك داخلي، خاصة بعد مسار السلام واتساع دوائر الشك في الوعي الجمعي.
فاقم العدوان الإسرائيلي المتكرر على غزة منذ عام 2007، وصولاً إلى العدوان الأخير بعد أحداث السابع من أكتوبر، هذا الالتباس، فعلى الرغم من الإجماع الأردني على رفض العدوان، برز انقسام حاد حول حركة حماس، تحوّل أحياناً من خلاف سياسي إلى شرخ هوياتي، ترافق مع تبادل الاتهامات والطعن، وكشف عن هشاشة في بنية الانتماء الوطني، زادتها الأوضاع الاقتصادية الصعبة وارتفاع البطالة وتراجع الثقة بقدرة منظومة الإصلاح على تجاوز العقبات البيروقراطية الموضوعة أمامها.
في هذا السياق تحديداً، تبرز دلالات مسيرة المنتخب الوطني الأردني، فقد ترافق صعوده مع موجة دعم جماهيري غير مسبوقة، عابرة للأصول والمنابت، وبلغت «الأنا الأردنية» ذروتها دون تكلف أو توجيه، وتحول العلم والمنتخب إلى رموز جامعة، وشعرت الأغلبية الساحقة من الأردنيين بأنهم ينتمون إلى شيء واحد، واضح ومشترك، لم تكن هذه المشاعر وليدة لحظة رياضية عابرة، بل كانت كامنة، تبحث عن إنجاز تلتف حوله.
ما تقوله هذه اللحظة بوضوح هو أن الهوية الوطنية الأردنية لا تُبنى بالخوف، ولا بالتحشيد الخطابي، ولا بالاستقطاب، بل تُبنى بالإنجاز، وبالسردية الصادقة، وبالمواقف الواضحة، وهي تدعونا إلى مراجعة هادئة للرواية الوطنية، وإلى خطاب صريح حول فلسطين وغزة، وإلى الفصل بين مواقف الحكومات وقراراتها الظرفية وبين جوهر الدولة وهويتها، وتكشف هذه اللحظة، أيضاً، عن فشلنا في استثمار مجالين جرى تهميشهما طويلًا: الرياضة والفن، فقد أثبتا أنهما من أقوى أدوات بناء الهوية، من الأغنية الوطنية إلى المنتخب الوطني، بوصفهما عنصر دمج وطني حقيقي.
أخيراً، لم يكشف فوز المنتخب عن هشاشة في الهوية الوطنية الأردنية، بل كشف أنها أقوى وأكثر صلابة مما ظنّت بعض النخب، لكنها كانت تبحث عن إنجاز تؤمن به، لا عن خطاب رنّان تُستدعى إليه، وتلك هي الرسالة الأهم التي ينبغي أن تُقرأ بعمق، لا أن يُحتفى بها شكلًا ثم تُنسى.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *