أكثر من نصف الأسر اليمنية تعجز عن تأمين الحد الأدنى من احتياجاتها الغذائية، رغم تسجيل الأسواق تراجعاً في تكلفة السلة الغذائية خلال الأشهر الأخيرة. هذا التناقض المذهل يكشف حقيقة مرعبة: اليمن يشهد أعلى مستويات تاريخية من ضعف الاستهلاك الغذائي، بينما تُظهر المؤشرات الاقتصادية تحسناً ظاهرياً يخفي كارثة إنسانية صامتة.
وفقاً لتقرير برنامج الأغذية العالمي الذي اطلعت عليه “بقش”، فإن المعضلة تتجذر في ثلاث طبقات مترابطة تشكل عاصفة مثالية للمجاعة: انهيار الاقتصاد المحلي المرتبط بأزمات الصرف والوقود، وسلاسل إمداد مختنقة في الموانئ والملاحة، وأسر محطمة تلجأ لتقليص الوجبات واعتماد استراتيجيات البقاء القاسية.
قد يعجبك أيضا :
لم تعد الأرقام الاقتصادية قادرة على قياس حجم المأساة الحقيقية، إذ يتزامن التحسن النسبي في تكاليف الغذاء مع تآكل مدمر في القدرة الشرائية وانهيار برامج الدعم، ما يحول المؤشرات الإيجابية إلى أرقام معزولة تماماً عن واقع الجوع داخل المنازل اليمنية.
تمويل يختفي… ومساعدات تتبخر
قد يعجبك أيضا :
في صدمة جديدة، شهد تمويل خطة الاحتياجات الإنسانية لعام 2025 تراجعاً حاداً مقارنة بالعام السابق، مما أجبر المنظمات على التخلي عن منطق التغطية الواسعة والانتقال إلى الاستهداف المحدود المدمر. اعتباراً من مطلع 2026، ستفقد شريحة واسعة من اليمنيين شبكة الأمان الغذائي نهائياً بسبب قرارات خفض عدد المستفيدين القسرية.
المفارقة الأكثر إيلاماً تظهر في التفاوت الصارخ بين مناطق البلاد: بينما نُفذت عدة دورات مساعدة غذائية في مناطق حكومة عدن خلال 2025 استهدفت ملايين الأشخاص، توقفت الأنشطة الإنسانية شبه كلياً في مناطق حكومة صنعاء منذ نهاية أغسطس بعد تنفيذ دورتين فقط طوال العام.
قد يعجبك أيضا :
وفقاً لمتابعات “بقش”، فإن الأزمة تجاوزت مسألة التمويل لتصل إلى استحالة العمل أصلاً، نتيجة غياب المساحة التشغيلية اللازمة للوصول إلى المحتاجين، ما يجعل فجوة الجوع مرشحة للاتساع الكارثي حتى مع أي تحسن اقتصادي مستقبلي.
خدعة الأرقام: استقرار مؤقت يخفي هشاشة مدمرة
قد يعجبك أيضا :
في مناطق حكومة عدن، سجلت تكلفة السلة الغذائية الدنيا استقراراً نسبياً خلال نوفمبر 2025، مع ارتفاع طفيف مقارنة بالشهر السابق. لكن هذا “التحسن” المضلل لا يعكس تحسناً حقيقياً في حياة الناس، إذ أن انخفاض الأسعار بالعملة المحلية لم يتناسب مع تحسن سعر الصرف، كما أظهرت التكلفة بالدولار اتجاهاً معاكساً كلياً.
حسب قراءة “بقش”، فإن جزءاً من هذا التحسن يرتبط بعوامل ظرفية مؤقتة مثل تحسن قيمة الريال وتراجع تكاليف النقل، وليس نتيجة إصلاحات هيكلية حقيقية في السوق. وبالتالي، فإن قراءة الأسعار بمعزل عن انهيار الدخل وتفشي البطالة وتراجع المساعدات تؤدي إلى استنتاجات مضللة خطيرة.
اختناقات البحر الأحمر: شرايين مقطوعة
رغم تراجع علاوات مخاطر الحرب في البحر الأحمر عقب وقف إطلاق النار الإقليمي، لم تعد حركة السفن إلى مستوياتها الطبيعية، وبقيت أقل بكثير من مستويات ما قبل الأزمة. واردات الوقود عبر موانئ البحر الأحمر انخفضت بشكل ملحوظ، كما تراجعت الكميات التراكمية خلال 2025 مقارنة بالعام السابق.
هذا الواقع المرير يوضح أن انخفاض المخاطر التأمينية وحده غير كافٍ لاستعادة تدفق التجارة، وأن اختلال الثقة البحرية يظل عاملاً مدمراً في استمرار الضغوط على الأمن الغذائي. في المقابل، شهدت موانئ عدن والمكلا ارتفاعاً في واردات الغذاء، ما يعكس تحولاً جزئياً في مسارات الاستيراد من الشمال إلى الجنوب مع أعباء لوجستية إضافية مدمرة.
ذروة تاريخية من المعاناة
تكشف المؤشرات التي تتبعها “بقش” أن اليمن وصل خلال 2025 إلى أعلى مستويات تاريخية من ضعف استهلاك الغذاء، مع تصنيف البلاد ضمن الأكثر تضرراً عالمياً من انعدام الأمن الغذائي. النازحون داخلياً والأسر التي تقودها نساء يظلون الأكثر هشاشة، نتيجة تداخل عوامل الفقر والنزوح وضعف فرص العمل.
الخلاصة المرعبة أن السعر لم يعد يروي القصة الكاملة للمأساة. فحتى مع انخفاض تكلفة السلة الغذائية، تبقى القدرة على الشراء محدودة مع استمرار تراجع الدخل والدعم. الأمن الغذائي في اليمن بات معادلة مركبة تجمع بين الاقتصاد والسياسة والتمويل والوصول الإنساني، وأي تحسن جزئي يظل هشاً وقابلاً للانهيار ما لم تُعالج جذور الأزمة بشكل شامل ومتزامن.
